باب الْكِهَانَةِ
باب السِّحْرِ
باب الشِّرْكُ وَالسِّحْرُ مِنْ الْمُوبِقَاتِ
باب هَلْ يَسْتَخْرِجُ السِّحْرَ
باب السِّحْرِ
باب إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْراً
باب الدَّوَاءِ بِالْعَجْوَةِ لِلسِّحْرِ
باب الْكِهَانَةِ
الشرح:
قوله: (باب الكهانة) وقع في ابن بطال هنا " والسحر " وليس هو في نسخ الصحيح فيما وقفت عليه، بل ترجمة السحر في باب مفرد عقب هذه، والكهانة - بفتح الكاف ويجوز كسرها - ادعاء علم الغيب كالاخبار بما سيقع في الارض مع الاستناد إلى سبب، والاصل فيها استراق السمع من كلام الملائكة، فيلقيه في أذن الكاهن.
والكاهن لفظ يطلق على العراف، والذي يضرب بالحصى، والمنجم، ويطلق على من يقوم بأمر آخر ويسعى في قضاء حوائجه.
وقال في " المحكم ": الكاهن القاضي بالغيب.
وقال في " الجامع ": العرب تسمي كل من أذن بشيء قبل وقوعه كاهنا.
وقال الخطابي: الكهنة قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطباع نارية، فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب في هذه الامور، وساعدتهم بكل ما تصل قدرتهم إليه.
وكانت الكهانة في الجاهلية فاشية خصوصا في العرب لانقطاع النبوة فيهم.
وهي على أصناف: منها ما يتلقونه من الجن، فإن الجن كانوا يصعدون إلى جهة السماء فيركب بعضهم بعضا إلى أن يدنو الاعلى بحيث يسمع الكلام فيلقيه إلى الذي يليه، إلى أن يتلقاه من يلقيه في أذن الكاهن فيزيد فيه، فلما جاء الاسلام ونزل القرآن حرست السماء من الشياطين، وأرسلت عليهم الشهب، فبقي من استراقهم ما يتخطفه الاعلى فيلقيه إلى الاسفل قبل أن يصيبه الشهاب، إلى ذلك الاشارة بقوله تعالى (إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب) .
وكانت إصابة الكهان قبل الاسلام كثيرة جدا كما جاء في أخبار شق وسطيح ونحوهما، وأما في الاسلام فقد ندر ذلك جدا حتى كاد يضمحل ولله الحمد.
ثانيها ما يخبر الجني به من يواليه بما غاب عن غيره مما لا يطلع عليه الانسان غالبا، أو يطلع عليه من قرب منه لا من بعد.
ثالثها ما يستند إلى ظن وتخمين وحدس، وهذا قد يجعل الله فيه لبعض الناس قوة مع كثرة الكذب فيه.
رابعها ما يستند إلى التجربة والعادة، فيستدل على الحادث بما وقع قبل ذلك، ومن هذا القسم الاخير ما يضاهي السحر، وقد يعتضد بعضهم في ذلك بالزجر والطرق والنجوم، وكل ذلك مذموم شرعا.
وورد في ذم الكهانة ما أخرجه أصحاب السنن وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة رفعه " من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " وله شاهد من حديث جابر وعمران بن حصين أخرجهما البزار بسندين جيدين ولفظهما " من أتى كاهنا " وأخرجه مسلم من حديث امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - ومن الرواة من سماها حفصة - بلفظ " من أتى عرافا " وأخرجه أبو يعلى من حديث ابن مسعود بسند جيد، لكن لم يصرح برفعه، ومثله لا يقال بالرأي، ولفظه " من أتى عرافا أو ساحرا أو كاهنا " واتفقت ألفاظهم على الوعيد بلفظ حديث أبي هريرة، إلا حديث مسلم فقال فيه " لم يقبل لهما صلاة أربعين يوما".
ووقع عند الطبراني من حديث أنس بسند لين مرفوعا بلفظ " من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد برئ مما أنزل على محمد، ومن أتاه غير مصدق له لم تقبل صلاته أربعين يوما " والاحاديث الاول مع صحتها وكثرتها أولى من هذا، والوعيد جاء تارة بعدم قبول الصلاة وتارة بالتكفير، فيحمل على حالين من الاتي أشار إلى ذلك القرطبي.
والعراف بفتح المهملة وتشديد الراء من يستخرج الوقوف على المغيبات بضرب من فعل أو قول.
الحديث:
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ اقْتَتَلَتَا فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الاخْرَى بِحَجَرٍ فَأَصَابَ بَطْنَهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَقَتَلَتْ وَلَدَهَا الَّذِي فِي بَطْنِهَا فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ مَا فِي بَطْنِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ فَقَالَ وَلِيُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي غَرِمَتْ كَيْفَ أَغْرَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لا شَرِبَ وَلا أَكَلَ وَلا نَطَقَ وَلا اسْتَهَلَّ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ
الشرح:
قوله: (عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة) وساقه بطوله، كذا قال عبد الرحمن بن خالد بن مسافر من رواية الليث عنه عن ابن شهاب، وفصل مالك عن ابن شهاب قصة ولي المرأة فجعله من رواية ابن شهاب عن سعيد بن المسيب مرسلا كما بينه المصنف في الطريق التي تلي طريق ابن مسافر هذه، وقد روى الليث عن ابن شهاب أصل الحديث بدون الزيادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة موصولا كما سيأتي في الديات، وكذا أخرج هناك طريق يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة وسعيد معا عن أبي هريرة بأصل الحديث دون الزيادة، ويأتي شرح ما يتعلق بالجنين والغرة هناك إن شاء الله تعالى.
قوله: (فقال ولي المرأة) هو حمل بفتح المهملة والميم الخفيفة ابن مالك ابن النابغة الهذلي، بينه مسلم من طريق يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب وأبي سلمة معا عن أبي هريرة، وكنية حمل المذكور أبو نضلة، وهو صحابي نزل البصرة.
وفي رواية مالك " فقال الذي قضي عليه " أي قضي على من هي منه بسبيل.
وفي رواية الليث عن ابن شهاب المذكورة أن المرأة من بني لحيان، وبنو لحيان حي من هذيل، وجاء تسمية الضرتين فيما أخرج أحمد من طريق عمرو بن تميم بن عويم عن أبيه عن جده قال " كانت أختي مليكة وامرأة منا يقال لها أم عفيف بنت مسروح تحت حمل بن مالك ابن النابغة، فضربت أم عفيف مليكة بمسطح " الحديث، لكن قال فيه " فقال العلاء بن مسروح: يا رسول الله، أنغرم من لا شرب ولا أكل " الحديث، وفي آخره " أسجع كسجع الجاهلية " ويجمع بينهما بأن كلا من زوج المرأة وهو حمل وأخيها وهو العلاء قال ذلك تواردا معا عليه، لما تقرر عندهما أن الذي يودي هو الذي يخرج حيا، وأما السقط فلا يودي، فأبطل الشرع ذلك وجعل فيه غرة، وسيأتي بيانه في كتاب الديات إن شاء الله تعالى.
ووقع في رواية للطبراني أيضا أن الذي قال ذلك عمران بن عويم، فلعلها قصة أخرى.
وأم عفيف بمهملة وفاءين وزن عظيم، ووقع في المبهمات للخطيب، وأصله عند أبي داود والنسائي من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس أنها أم غطيف بغين ثم طاء مهملة مصغر، فالله أعلم.
قوله: (كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل) في رواية مالك " من لا أكل ولا شرب " والاول أولى لمناسبة السجع.
ووقع في رواية الكشميهني في رواية مالك " ما لا " بدل " من لا " وهذا هو الذي في " الموطأ".
وقال أبو عثمان بن جني: معني قوله لا أكل أي لم يأكل، أقام الفعل الماضي مقام المضارع.
قوله: (فمثل ذلك يطل) للاكثر بضم المثناة التحتانية وفتح الطاء المهملة وتشديد اللام أي يهدر، يقال دم فلان هدر إذا ترك الطلب بثأره، وطل الدم بضم الطاء وبفتحها أيضا، وحكي " أطل " ولم يعرفه الاصمعي: ووقع للكشميهني في رواية ابن مسافر " بطل " بفتح الموحدة والتخفيف من البطلان كذا رأيته في نسخة معتمدة من رواية أبي ذر، وزعم عياض أنه وقع هنا للجميع بالموحدة، قال: وبالوجهين في الموطأ، وقد رجح الخطابي أنه من البطلان، وأنكره ابن بطال فقال: كذا يقوله أهل الحديث، وإنما هو طل الدم إذا هدر.
قلت: وليس لانكاره معنى بعد ثبوت الرواية، وهو موجه، راجع إلى معنى الرواية الاخرى.
قوله: (إنما هذا من إخوان الكهان) أي لمشابهة كلامه كلامهم، زاد مسلم والاسماعيلي من رواية يونس " من أجل سجعه الذي سجع " قال القرطبي: هو من تفسير الراوي، وقد ورد مستند ذلك فيما أخرجه مسلم في حديث المغيرة بن شعبة " فقال رجل من عصبة القاتلة يغرم " فذكر نحوه وفيه " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أسجع كسجع الاعراب "؟ والسجع هو تناسب آخر الكلمات لفظا، وأصله الاستواء، وفي الاصطلاح الكلام المقفى والجمع أسجاع وأساجيع، قال ابن بطال: فيه ذم الكفار وذم من تشبه بهم في ألفاظهم، وإنما لم يعاقبه لانه صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بالصفح عن الجاهلين، وقد تمسك به من كره السجع في الكلام، وليس على إطلاقه، بل المكروه منه ما يقع مع التكلف في معرض مدافعة الحق، وأما ما يقع عفوا بلا تكلف في الامور المباحة فجائز، وعلى ذلك يحمل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الدعوات.
والحاصل أنه إن جمع الامرين من التكلف وإبطال الحق كان مذموما، وإن اقتصر على أحدهما كان أخف في الذم، ويخرج من ذلك تقسيمه إلى أربعة أنواع: فالمحمود ما جاء عفوا في حق، ودونه ما يقع متكلفا في حق أيضا، والمذموم عكسهما.
وفي الحديث من الفوائد أيضا رفع الجناية للحاكم، ووجوب الدية في الجنين ولو خرج ميتا كما سيأتي تقريره في كتاب الديات مع استيفاء فوائده.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ
الشرح:
حديث أبي مسعود، وهو عقبة بن عمرو، في النهي عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن، وقد تقدم شرحه في أواخر كتاب البيع.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسٌ عَنْ الْكُهَّانِ فَقَالَ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَاناً بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقّاً
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا مِنْ الْجِنِّيِّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ قَالَ عَلِيٌّ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مُرْسَلٌ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّهُ أَسْنَدَهُ بَعْدَهُ
الشرح:
قوله: (عن يحيى بن عروة بن الزبير عن عروة) كأن هذا مما فات الزهري سماعه من عروة فحمله عن ولده عنه، مع كثرة ما عن الزهري عن عروة، وقد وصفه الزهري بسعة العلم، ووقع في رواية معقل بن عبيد الله عند مسلم عن الزهري " أخبرني يحيى بن عروة أنه سمع عروة " وكذا للمصنف في التوحيد من طريق يونس، وفي الادب من طريق ابن جريج كلاهما عن ابن شهاب، ولم أقف ليحيى بن عروة في البخاري إلا على هذا الحديث، وقد روى بعض هذا الحديث محمد بن عبد الرحمن أبو الاسود عن عروة وتقدم موصولا في بدء الخلق، وكذا هشام بن عروة عن أبيه به.
قوله: (سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية الكشميهني " سأل ناس رسول الله صلى الله عليه وسلم " وكذا هو في رواية يونس، وعند مسلم من رواية معقل مثله ومن رواية معقل مثل الذي قبله، وقد سمي ممن سأل عن ذلك معاوية بن الحكم السلمي كما أخرجه مسلم من حديثه " قال قلت يا رسول الله، أمورا كنا نصنعها في الجاهلية كنا نأتي الكهان، فقال: لا تأتوا الكهان " الحديث.
وقال الخطابي هؤلاء الكهان فيما علم بشهادة الامتحان قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطبائع نارية، فهم يفزعون إلى الجن في أمورهم ويستفتونهم في الحوادث فيلقون إليهم الكلمات، ثم تعرض إلى مناسبة ذكر الشعراء بعد ذكرهم في قوله تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين) .
قوله: (فقال ليس بشيء) في رواية مسلم " ليسوا بشيء"، وكذا في رواية يونس في التوحيد، وفي نسخة " فقال لهم ليسوا بشيء " أي ليس قولهم بشيء يعتمد عليه، والعرب تقول لمن عمل شيئا ولم يحكمه: ما عمل شيئا، قال القرطبي: كانوا في الجاهلية يترافعون إلى الكهان في الوقائع والاحكام ويرجعون إلى أقوالهم، وقد انقطعت الكهانة بالبعثة المحمدية، لكن بقي في الوجود من يتشبه بهم، وثبت النهي عن إتيانهم فلا يحل إتيانهم ولا تصديقهم.
قوله: (إنهم يحدثوننا أحيانا بشيء فيكون حقا) في رواية يونس " فإنهم يتحدثون " هذا أورده السائل إشكالا على عموم قوله " ليسوا بشيء " لانه فهم أنهم لا يصدقون أصلا فأجابه صلى الله عليه وسلم عن سبب ذلك الصدق، وأنه إذا اتفق أن يصدق لم يتركه خالصا بل يشوبه بالكذب.
قوله: (تلك الكلمة من الحق) كذا في البخاري بمهملة وقاف أي الكلمة المسموعة التي تقع حقا، ووقع في مسلم " تلك الكلمة من الجن " قال النووي: كذا في نسخ بلادنا بالجيم والنون، أي الكلمة المسموعة من الجن أو التي تصح مما نقلته الجن.
قلت: التقدير الثاني يوافق رواية البخاري، قال النووي: وقد حكى عياض أنه وقع يعني في مسلم بالحاء والقاف.
قوله: (يخطفها الجني) كذا للاكثر.
وفي رواية السرخسي " يخطفها من الجني " أي الكاهن يخطفها من الجني أو الجني الذي يلقى الكاهن يخطفها من جني آخر فوقه، ويخطفها بخاء معجمة وطاء مفتوحة وقد تكسر بعدها فاء ومعناه الاخذ بسرعة.
وفي رواية الكشميهني " يحفظها " بتقديم الفاء بعدها ظاء معجمة والاول هو المعروف والله أعلم.
قوله (فيقرها) بفتح أوله وثانيه وتشديد الراء أي يصبها، تقول قررت على رأسه دلوا إذا صببته، فكأنه صب في أذنه ذلك الكلام، قال القرطبي: ويصح أن يقال المعنى ألقاها في أذنه بصوت، يقال قر الطائر إذا صوت انتهى.
ووقع في رواية يونس المذكورة " فيقرقرها " أي يرددها، يقال قرقرت الدجاجة تقرقر قرقرة إذا رددت صوتها، قال الخطابي: ويقال أيضا قرت الدجاجة تقر قرا وقريرا، وإذا رجعت في صوتها قيل قرقرت قرقرة وقرقريرة، قال: والمعني أن الجني إذا ألقى الكلمة لوليه تسامع بها الشياطين فتناقلوها كما إذا صوتت الدجاجة فسمعها الدجاج فجاوبتها.
وتعقبه القرطبي بأن الاشبه بمساق الحديث أن الجني يلقي الكلمة إلى وليه بصوت خفي متراجع له زمزمة ويرجعه له، فلذلك يقع كلام الكهان غالبا على هذا النمط، وقد تقدم شيء من ذلك في أواخر الجنائز في قصة ابن صياد وبيان اختلاف الرواة في قوله " في قطيفة له فيها زمزمة " وأطلق على الكاهن ولي الجني لكونه يواليه أو عدل عن قوله الكاهن إلى قوله وليه للتعميم في الكاهن وغيره ممن يوالي الجن.
قال الخطابي بين صلى الله عليه وسلم أن إصابة الكاهن أحيانا إنما هي لان الجني يلقي إليه الكلمة التي يسمعها استراقا من الملائكة فيزيد عليها أكاذيب يقيسها على ما سمع، فربما أصاب نادرا وخطؤه الغالب، وقوله في رواية يونس " كقرقرة الدجاجة " يعني الطائر المعروف، ودالها مثلثة والاشهر فيها الفتح، ووقع في رواية المستملي " الزجاجة " بالزاي المضمومة وأنكرها الدار قطني وعدها في التصحيف، لكن وقع في حديث الباب من وجه آخر تقدم في " باب ذكر الملائكة " قي كتاب بدء الخلق " فيقرها في أذنه كما تقر القارورة " وشرحوه على أن معناه كما يسمع صوت الزجاجة إذا حلت على شيء أو ألقي فيها شيء.
وقال القابسي: المعنى أنه يكون لما يلقيه الجني إلى الكاهن حس كحس القارورة إذا حركت باليد أو على الصفا.
وقال الخطابي: المعنى أنه يطبق به كما يطبق رأس القارورة برأس الوعاء الذي يفرغ فيه منها ما فيها.
وأغرب شارح " المصابيح " التوربشتي فقال: الرواية بالزاي أحوط لما ثبت في الرواية الاخرى " كما تقر القارورة " واستعمال قر في ذلك شائع بخلاف ما فسروا عليه الحديث فإنه غير مشهور ولم نجد له شاهدا في كلامهم، فدل على أن الرواية بالدال تصحيف أو غلط من السامع.
وتعقبه الطيبي فقال: لا ريب أن قوله " قر الدجاجة " مفعول مطلق، وفيه معنى التشبيه، فكما يصح أن يشبه إيراد ما اختطفه من الكلام في أذن الكاهن بصب الماء في القارورة يصح أن يشبه ترديد الكلام في أذنه بترديد الدجاجة صوتها في أذن صواحباتها، وهذا مشاهد، ترى الديك إذا رأى شيئا ينكره يقرقر فتسمعه الدجاج فتجتمع وتقرقر معه، وباب التشبيه واسع لا يفتقر إلى العلاقة، غير أن الاختطاف مستعار للكلام من فعل الطير كما قال الله تعالى (فتخطفه الطير) فيكون ذكر الدجاجة هنا أنسب من ذكر الزجاجة لحصول الترشيح في الاستعارة.
قلت: ويؤيده دعوى الدار قطني وهو إمام الفن أن الذي بالزاي تصحيف، وإن كنا ما قبلنا ذلك فلا أقل أن يكون أرجح.
قوله: (فيخلطون معها مائة كذبة) في رواية ابن جريج " أكثر من مائة كذبة " وهو دال على أن ذكر المائة للمبالغة لا لتعيين العدد، وقوله كذبة هنا بالفتح وحكي الكسر، وأنكره بعضهم لانه بمعنى الهيئة والحالة وليس هذا موضعه، وقد أخرج مسلم في حديث آخر أصل توصل الجني إلى الاختطاف فأخرج من حديث ابن عباس " حدثني رجال من الانصار أنهم بينا هم جلوس ليلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رمي بنجم فاستنار، فقال: ما كنتم تقولون إذا رمي مثل هذا في الجاهلية؟ قالوا: كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم أو مات رجل عظيم، فقال: إنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته.
ولكن ربنا إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح إلى أهل هذه السماء الدنيا فيقولون: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم حتى يصل إلى السماء الدنيا، فيسترق منه الجني، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يزيدون فيه وينقصون " وقد تقدم في تفسير سبأ وغيرها بيان كيفيتهم عند استراقهم، وأما ما تقدم في بدء الخلق من وجه آخر عن عروة عن عائشة " أن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب - فتذكر الامر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع " فيحتمل أن يريد بالسحاب السماء كما أطلق السماء على السحاب، ويحتمل أن يكون على حقيقته وأن بعض الملائكة إذا نزل بالوحي إلى الارض تسمع منهم الشياطين، أو المراد الملائكة الموكلة بإنزال المطر.
قوله: (قال علي قال عبد الرزاق مرسل الكلمة من الحق، ثم بلغني أنه أسنده بعد) علي هذا هو ابن المديني شيخ البخاري فيه، ومراده أن عبد الرزاق كان يرسل هذا القدر من الحديث، ثم أنه بعد ذلك وصله بذكر عائشة فيه، وقد أخرجه مسلم عن عبد بن حميد والاسماعيلي من طريق فياض بن زهير، وأبو نعيم من طريق عباس العنبري ثلاثتهم عن عبد الرزاق موصولا كرواية هشام بن يوسف عن معمر، وفي الحديث بقاء استراق الشياطين السمع، لكنه قل وندر حتى كاد يضمحل بالنسبة لما كانوا فيه من الجاهلية وفيه النهي عن إتيان الكهان قال القرطبي: يجب عل من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئا من ذلك من الاسواق وينكر عليهم أشد النكير وعلى من يجيء إليهم ولا يغتر بصدقهم في بعض الامور ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينسب إلى العلم، فإنهم غير راسخين في العلم بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور.
(تنبيه) : إيراد باب الكهانة كتاب الطب لمناسبته لباب السحر لما يجمع بينهما من مرجع كل منهما للشياطين، وإيراد باب السحر في كتاب الطب لمناسبته ذكر الرقى وغيرها من الادوية المعنوية، فناسب ذكر الادواء التي تحتاج إلى ذلك، واشتمل كتاب الطب على الاشارة للادوية الحسية كالحبة السوداء والعسل ثم على الادوية المعنوية كالرقى بالدعاء والقرآن.
ثم ذكرت الادواء التي تنفع الادوية المعنوية في دفعها كالسحر، كما ذكرت الادواء التي تنفع الادوية الحسية في دفعها كالجذام والله أعلم.
باب السِّحْرِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الاخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى وَقَوْلِهِ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ وَقَوْلِهِ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى وَقَوْلِهِ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَالنَّفَّاثَاتُ السَّوَاحِرُ تُسْحَرُونَ تُعَمَّوْنَ
الشرح:
قوله: (باب السحر) قال الراغب وغيره: السحر يطلق على معان: أحدها ما لطف ودق، ومنه سحرت الصبي خادعته واستملته، وكل من استمال شيئا فقد سحره ومنه إطلاق الشعراء سحر العيون لاستمالتها النفوس، ومنه قول الاطباء: الطبيعة ساحرة ومنه قوله تعالى: (بل نحن قوم مسحورون) أي مصروفون عن المعرفة، ومنه حديث " إن من البيان لسحرا " وسيأتي قريبا في باب مفرد.
الثاني ما يقع بخداع وتخييلات لا حقيقة لها، نحوها ما يفعله المشعوذ من صرف الابصار عما يتعاطاه بخفة يده، وإلى ذلك الاشارة بقوله تعالى: (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) وقوله تعالى: (سحروا أعين الناس) ومن هناك سموا موسى ساحرا، وقد يستعين في ذلك بما يكون فيه خاصية كالحجر الذي يجذب الحديد المسمى المغنطيس.
الثالث ما يحصل بمعاونة الشياطين بضرب من التقرب إليهم، وإلى ذلك الاشارة بقوله تعالى: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) .
الرابع ما يحصل بمخاطبة الكواكب واستنزال روحانياتها بزعمهم، قال ابن حزم: ومنه ما يوجد من الطلسمات كالطابع المنقوش فيه صورة عقرب في وقت كون القمر في العقرب فينفع إمساكه من لدغة العقرب، وكالمشاهد ببعض بلاد الغرب - وهي سرقسطة - فإنها لا يدخلها ثعبان قط إلا إن كان بغير إرادته، وقد يجمع بعضهم بين الامرين الاخيرين كالاستعانة بالشياطين ومخاطبة الكواكب فيكون ذلك أقوى بزعمهم، قال أبو بكر الرازي في الاحكام له: كان أهل بابل قوما صابئين يعبدون الكواكب السبعة ويسمونها آلهة ويعتقدون أنها الفعالة لكل ما في العالم، وعملوا أوثانا على أسمائها، ولكل واحد هيكل فيه صنمه يتقرب إليه بما يوافقه بزعمهم من أدعية وبخور، وهم الذين بعث إليهم إبراهيم عليه السلام وكانت علومهم أحكام النجوم، ومع ذلك فكان السحرة منهم يستعملون سائر وجوه السحر وينسبونها إلى فعل الكواكب لئلا يبحث عنها وينكشف تمويههم انتهى.
ثم السحر يطلق ويراد به الالة التي يسحر بها، ويطلق ويراد به فعل الساحر والالة تارة تكون معنى من المعاني فقط كالرقى والنفث في العقد، وتارة تكون بالمحسوسات كتصوير الصورة على صورة المسحور.
وتارة بجمع الامرين الحسي والمعنوي وهو أبلغ.
واختلف في السحر فقيل هو تخييل ولا حقيقة له وهذا اختيار أبي جعفر الاستراباذي من الشافعية وأبي بكر الرازي من الحنفية وابن حزم الظاهري وطائفة، قال النووي: والصحيح أن له حقيقة وبه قطع الجمهور وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة انتهى.
لكن محل النزاع هل يقع بالسحر انقلاب عين أو لا؟ فمن قال إنه تخييل فقط منع ذلك، ومن قال إن له حقيقة اختلفوا هل له تأثير فقط بحيث يغير المزاج فيكون نوعا من الامراض أو ينتهي إلى الاحالة بحيث يصير الجماد حيوانا مثلا وعكسه؟ فالذي عليه الجمهور هو الاول، وذهبت طائفة قليلة إلى الثاني.
فإن كان بالنظر إلى القدرة الالهية فمسلم، وإن كان بالنظر إلى الواقع فهو محل الخلاف، فإن كثيرا ممن يدعي ذلك لا يستطيع إقامة البرهان عليه، ونقل الخطابي أن قوما أنكروا السحر مطلقا وكأنه عني القائلين بأنه تخييل فقط وإلا فهي مكابرة.
وقال المازري: جمهور العلماء على إثبات السحر وأن له حقيقة، ونفى بعضهم حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة وهو مردود لورود النقل بإثبات السحر، ولان العقل لا ينكر أن الله قد يخرق العادة عند نطق الساحر بكلام ملفق أو تركيب أجسام أو مزج بين قوى على ترتيب مخصوص، ونظير ذلك ما يقع من حذاق الاطباء من مزج بعض العقاقير ببعض حتى ينقلب الضار منها بمفرده بالتركيب نافعا، وقيل لا يزيد تأثير السحر على ما ذكر الله تعالى في قوله: (يفرقون به بين المرء وزوجه) لكون المقام مقام تهويل، فلو جاز أن يقع به أكثر من ذلك لذكره.
قال المازري: والصحيح من جهة العقل أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك، قال: والاية ليست نصا في منع الزيادة، ولو قلنا إنها ظاهرة في ذلك.
ثم قال: والفرق بين السحر والمعجزة والكرامة أن السحر يكون بمعاناة أقوال وأفعال حتى يتم للساحر ما يريد، والكرامة لا تحتاج إلى ذلك بل إنما تقع غالبا اتفاقا، وأما المعجزة فتمتاز عن الكرامة بالتحدي.
ونقل إمام الحرمين الاجماع على أن السحر لا يظهر إلا من فاسق، وأن الكرامة لا تظهر على فاسق.
ونقل النووي زيادات الروضة عن المتولي نحو ذلك.
وينبغي أن يعتبر بحال من يقع الخارق منه، فإن كان متمسكا بالشريعة متجنبا للموبقات فالذي يظهر على يده من الخوارق كرامة، وإلا فهو سحر، لانه ينشأ عن أحد أنواعه كإعانة الشياطين.
وقال القرطبي: السحر حيل صناعية يتوصل إليها بالاكتساب، غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، ومادته الوقوف على خواص الاشياء والعلم بوجوه تركيبها وأوقاته، وأكثرها تخييلات بغير حقيقة وإيهامات بغير ثبوت فيعظم عند من لا يعرف ذلك كما قال الله تعالى عن سحرة فرعون: (وجاءوا بسحر عظيم) مع أن حبالهم وعصيهم لم تخرج عن كونها حبالا وعصيا.
ثم قال: والحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرا في القلوب كالحب والبغض وإلقاء الخير والشر، وفي الابدان بالالم والسقم، وإنما المنكور أن الجماد ينقلب حيوانا أو عكسه بسحر الساحر أو نحو ذلك.
قوله: (وقول الله تعالى: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر الاية) كذا للاكثر وساق في رواية كريمة إلى قوله: (من خلاق) وفي هذه الاية بيان أصل السحر الذي يعمل به اليهود، ثم هو مما وضعته الشياطين على سليمان بن داود عليه السلام ومما أنزل على هاروت وماروت بأرض بابل، والثاني متقدم العهد على الاول لان قصة هاروت وماروت كانت من قبل زمن نوح عليه السلام على ما ذكر ابن إسحاق وغيره، وكان السحر موجودا في زمن نوح إذ أخبر الله عن قوم نوح أنهم زعموا أنه ساحر، وكان السحر أيضا فاشيا في قوم فرعون وكل ذلك قبل سليمان.
واختلف في المراد بالاية فقيل.
إن سليمان كان جمع كتب السحر والكهانة فدفنها تحت كرسيه فلم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي، فلما مات سليمان وذهبت العلماء الذين يعرفون الامر جاءهم شيطان في صورة إنسان فقال لليهود: هل أدلكم على كنز لا نظير له؟ قالوا: نعم قال: فاحفروا تحت الكرسي، فحفروا - وهو متنح عنهم - فوجدوا تلك الكتب، فقال لهم: إن سليمان كان يضبط الانس والجن بهذا، ففشا فيهم أن سليمان كان ساحرا، فلما نزل القرآن بذكر سليمان في الانبياء أنكرت اليهود ذلك وقالوا إنما كان ساحرا، فنزلت هذه الاية.
أخرجه الطبري وغيره عن السدي، ومن طريق سعيد بن جبير بسند صحيح نحوه، ومن طريق عمران بن الحارث عن ابن عباس موصولا بمعناه.
وأخرج من طريق الربيع بن أنس نحوه ولكن قال: إن الشياطين هي التي كتبت كتب السحر ودفنتها تحت كرسيه، ثم لما مات سليمان استخرجته وقالوا: هذا العلم الذي كان سليمان يكتمه الناس.
وأخرجه من طريق محمد بن إسحاق وزاد أنهم نقشوا خاتما على نقش خاتم سليمان وختموا به الكتاب وكتبوا به الكتاب وكتبوا عنوانه " هذا ما كتب آصف بن برخياء الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم " ثم دفنوه فذكر نحو ما تقدم.
وأخرج من طريق العوفي عن ابن عباس نحو ما تقدم عن السدي ولكن قال أنهم لما وجدوا الكتب قالوا هذا مما أنزل الله على سليمان فأخفاه منا.
وأخرج بسند صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: انطلقت الشياطين في الايام التي ابتلي فيها سليمان، فكتبت كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنتها تحت كرسيه ثم أخرجوها بعده فقرؤوها على الناس، وملخص ما ذكر في تفسير هذه الاية أن المحكي عنهم أنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين هم أهل الكتاب، إذ تقدم قبل ذلك في الايات إيضاح ذلك، والجملة معطوفة على مجموع الجمل السابقة من قوله تعالى: (ولما جاءهم رسول) إلى آخر الاية، و " ما " في قوله (ما تتلو الشياطين) موصولة على الصواب، وغلط من قال إنها نافية لان نظم الكلام يأباه، و " تتلو " لفظه مضارع لكن هو واقع موقع الماضي وهو استعمال شائع، ومعنى تتلو تتقول، ولذلك عداه بعلي، وقيل معناه تتبع أو تقرأ، ويحتاج إلى تقدير قيل هو تقرأ على زمان ملك سليمان، وقوله: (وما كفر سليمان) ما نافية جزما وقوله: (ولكن الشياطين كفروا) هذه الواو عاطفة لجملة الاستدراك على ما قبلها، وقوله: (يعلمون الناس السحر) الناس مفعول أول والسحر مفعول ثان والجملة حال من فاعل كفروا، أي كفروا معلمين، وقيل هي بدل من كفروا، وقيل استئنافية، وهذا على إعادة ضمير يعلمون على الشياطين، ويحتمل عوده على الذين اتبعوا فيكون حالا من فاعل اتبعوا أو استئنافا، وقوله: (وما أنزل) ما موصولة ومحلها النصب عطفا على السحر، والتقدير يعلمون الناس السحر، والمنزل على الملكين، وقيل الجر عطفا على ملك سليمان أي تقولا على ملك سليمان وعلى ما أنزل، قيل بل هي نافية عطفا، على (وما كفر سليمان) والمعنى ولم ينزل على الملكين إباحة السحر.
وهذان الاعرابان ينبنيا على ما جاء في تفسير الاية عن البعض، والجمهور على خلافه وأنها موصولة، ورد الزجاج على الاخفش دعواه أنها نافية وقال: الذي جاء في الحديث والتفسير أولى.
وقوله: (ببابل) متعلق بما أنزل أي في بابل، والجمهور على فتح لام الملكين، وقرئ بكسرها، وهاروت وماروت بدل من الملكين وجرا بالفتحة، أو عطف بيان، وقيل بل هما بدل من الناس وهو بعيد، وقيل من الشياطين على أن هاروت وماروت اسمان لقبيلتين من الجن وهو ضعيف، وقوله: (وما يعلمان من أحد) بالتشديد من التعليم، وقرئ في الشاذ بسكون العين من الاعلام بناء على أن التضعيف يتعاقب مع الهمزة، وذلك أن الملكين لا يعلمان الناس السحر بل يعلمانهم به وينهيانهم عنه، والاول أشهر، وقد قال علي الملكان يعلمان تعليم إنذار لا تعليم طلب، وقد استدل بهذه الاية على أن السحر كفر ومتعلمه كافر، وهو واضح في بعض أنواعه التي قدمتها وهو التعبد للشياطين أو للكواكب، وأما النوع الاخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر به من تعلمه أصلا، قال النووي: عمل السحر حرام وهو من الكبائر بالاجماع، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفرا، ومنه لا يكون كفرا بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام، فإن كان فيه ما يقتضي الكفر كفر واستتيب منه ولا يقتل، فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر.
وعن مالك: الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب بل يتحتم قتله كالزنديق.
قال عياض: وبقول مالك قال أحمد وجماعة من الصحابة والتابعين ا ه.
وفي المسألة اختلاف كثير وتفاصيل ليس هذا موضع بسطها.
وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لاحد أمرين إما لتمييز ما فيه كفر من غيره إما لازالته عمن وقع فيه، فأما الاول فلا محذور فيه إلا من جهة الاعتقاد فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة الشيء بمجرده لا تستلزم منعا، كمن يعرف كيفية عبادة أهل الاوثان للاوثان لان كيفية ما يعمله الساحر إنما هي حكاية قول أو فعل، بخلاف تعاطيه والعمل به.
وأما الثاني فإن كان لا يتم كما زعم بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحل أصلا وإلا جاز للمعنى المذكور، وسيأتي مزيد لذلك في " باب هل يستخرج السحر " قريبا والله أعلم.
وهذا فصل الخطاب في هذه المسألة.
وفي إيراد المصنف هذه الاية إشارة إلى اختيار الحكم بكفر الساحر لقوله فيها: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) فإن ظاهرها أنهم كفروا بذلك، ولا يكفر بتعليم الشيء إلا وذلك الشيء كفر، وكذا قوله في الاية على لسان الملكين: (إنما نحن فتنة فلا تكفر) فإن فيه إشارة إلى أن تعلم السحر كفر فيكون العمل به كفرا، وهذا كله واضح على ما قررته من العمل ببعض أنواعه.
وقد زعم بعضهم أن السحر لا يصح إلا بذلك، وعلى هذا فتسمية ما عدا ذلك سحرا مجاز كإطلاق السحر على القول البليغ، وقصة هاروت وماروت جاءت بسند حسن من حديث ابن عمر في مسند أحمد، وأطنب الطبري في إيراد طرقها بحيث يقضي بمجموعها على أن للقصة أصلا، خلافا لمن زعم بطلانها كعياض ومن تبعه، ومحصلها أن الله ركب الشهوة في ملكين من الملائكة اختبارا لهما وأمرهما أن يحكما في الارض، فنزلا على صورة البشر وحكما بالعدل مدة، ثم افتتنا بامرأة جميلة فعوقبا بسبب ذلك بأن حبسا في بئر ببابل منكسين وابتليا بالنطق بعلم السحر، فصار يقصدهما من يطلب ذلك فلا ينطقان بحضرة أحد حتى يحذراه وينهياه، فإذا أصر تكلما بذلك ليتعلم منهما ذلك وهما قد عرفا ذلك فيتعلم منهما ما قص الله عنهما، والله أعلم.
قوله: (وقوله تعالى: ولا يفلح الساحر حيث أتى) في الاية نفي الفلاح عن الساحر، وليست فيه دلالة على كفر الساحر مطلقا، وإن كثر في القرآن إثبات الفلاح للمؤمن ونفيه عن الكافر، لكن ليس فيه ما ينفي نفي الفلاح عن الفاسق وكذا العاصي.
قوله (وقوله أفتأتون السحر وأنتم تبصرون) ؟ هذا يخاطب به كفار قريش يستبعدون كون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا من الله لكونه بشرا من البشر، فقال قائلهم منكرا على من اتبعه: أفتأتون السحر، أي أفتتبعونه حتى تصيروا كمن اتبع السحر وهو يعلم أنه سحر.
قوله: (وقوله: يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) هذه الاية عمدة من زعم أن السحر إنما هو تخييل، ولا حجة له بها لان هذه وردت في قصة سحرة فرعون، وكان سحرهم كذلك، ولا يلزم منه أن جميع أنواع السحر تخييل، قال أبو بكر الرازي في " الاحكام ": أخبر الله تعالى أن الذي ظنه موسى من أنها تسعى لم يكن سعيا وإنما كان تخييلا، وذلك أن عصيهم كانت مجوفة قد ملئت زئبقا، وكذلك الحبال كانت من أدم محشوة زئبقا، وقد حفروا قبل ذلك أسرابا وجعلوا لها آزاجا وملؤوها نارا فلما طرحت على ذلك الموضع وحمي الزئبق حركها لان من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، فلما أثقلته كثافة الحبال والعصي صارت تتحرك بحركته فظن من رآها أنها تسعى، ولم تكن تسعى حقيقة.
قوله: (ومن شر النفاثات في العقد، والنفاثات السواحر) هو تفسير الحسن البصري أخرجه الطبري بسند صحيح، وذكره أبو عبيدة أيضا في " المجاز " قال: النفاثات السواحر ينفثن.
وأخرج الطبري أيضا عن جماعة من الصحابة وغيرهم أنه النفث في الرقية، وقد تقدم البحث في ذلك في " باب الرقية".
وقد وقع في حديث ابن عباس فيما أخرجه البيهقي في " الدلائل " بسند ضعيف في آخر قصة السحر الذي سحر به النبي صلى الله عليه وسلم أنهم وجدوا وترا فيه إحدى عشرة عقدة وأنزلت سورة الفلق والناس وجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، وأخرجه ابن سعد بسند آخر منقطع عن ابن عباس " أن عليا وعمارا لما بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم لاستخراج السحر وجدا طلعة فيها إحدى عشرة عقدة " فذكر نحوه.
قوله: (تسحرون تعمون) بضم أوله وفتح المهملة وتشديد الميم المفتوحة، وضبط أيضا بسكون العين قال أبو عبيدة في كتاب " المجاز " في قوله تعالى: (سيقولون الله قل فأني تسحرون) أي كيف تعمون عن هذا وتصدون عنه؟ قال: ونراه من قوله سحرت أعيننا عنه فلم نبصره.
وأخرج في قوله: (فأنى تسحرون) أي تخدعون أو تصرفون عن التوحيد والطاعة.
قلت: وفي هذه الاية إشارة إلى الصنف الاول من السحر الذي قدمته.
وقال ابن عطية: السحر هنا مستعار لما وقع منهم من التخليط ووضع الشيء في غير موضعه كما يقع من المسحور، والله أعلم.
الحديث " حديث سحر الرسول صلى الله عليه وسلم ":
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الاعْصَمِ حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ عِنْدِي لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا ثُمَّ قَالَ يَا عَائِشَةُ أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ أَتَانِي رَجُلانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالاخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ فَقَالَ مَطْبُوبٌ قَالَ مَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الاعْصَمِ قَالَ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَالَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ قَالَ وَأَيْنَ هُوَ قَالَ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَجَاءَ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا اسْتَخْرَجْتَهُ قَالَ قَدْ عَافَانِي اللَّهُ فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرّاً فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ وَأَبُو ضَمْرَةَ وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامٍ وَقَالَ اللَّيْثُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامٍ فِي مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ يُقَالُ الْمُشَاطَةُ مَا يَخْرُجُ مِنْ الشَّعَرِ إِذَا مُشِطَ وَالْمُشَاقَةُ مِنْ مُشَاقَةِ الْكَتَّانِ
الشرح:
قوله: (حدثنا إبراهيم بن موسى) هو الرازي.
وفي رواية أبي ذر " حدثني " بالافراد، وهشام هو ابن عروة بن الزبير.
قوله: (عن أبيه) وقع في رواية يحيى القطان عن هشام " حدثني أبي " وقد تقدمت في الجزية، وسيأتي في رواية ابن عيينة عن ابن جريج " حدثني آل عروة " ووقع في رواية الحميدي عن سفيان عن ابن جريج " حدثني بعض آل عروة عن عروة " وظاهره أن غير هشام أيضا حدث به عن عروة، وقد رواه غير عروة عن عائشة كما سأبينه.
وجاء أيضا من حديث ابن عباس وزيد بن أرقم وغيرهما.
قوله: (سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من بني زريق) بزاي قبل الراء مصغر.
قوله: (يقال له لبيد) بفتح اللام وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة (ابن الاعصم) بوزن أحمر بمهملتين، ووقع في رواية عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عند مسلم " سحر النبي صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق " ووقع في رواية ابن عيينة الاتية قريبا " رجل من بني زريق حليف اليهود وكان منافقا " ويجمع بينهما بأن من أطلق أنه يهودي نظر إلى ما في نفس الامر، ومن أطلق عليه منافقا نظر إلى ظاهر أمره.
وقال ابن الجوزي هذا يدل على أنه كان أسلم نفاقا وهو واضح، وقد حكى عياض في " الشفاء " أنه كان أسلم، ويحتمل أن يكون قيل له يهودي لكونه كان من حلفائهم لا أنه كان على دينهم.
وبنو زريق بطن من الانصار مشهور من الخزرج، وكان بين كثير من الانصار وبين كثير من اليهود قبل الاسلام حلف وإخاء وود، فلما جاء الاسلام ودخل الانصار فيه تبرءوا منهم، وقد بين الواقدي السنة التي وقع فيها السحر: أخرجه عنه ابن سعد بسند له إلى عمر بن الحكم مرسل قال " لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي الحجة ودخل المحرم من سنة سبع جاءت رؤساء اليهود إلى لبيد بن الاعصم - وكان حليفا في بني زريق وكان ساحرا - فقالوا له: يا أبا الاعصم، أنت أسحرنا، وقد سحرنا محمدا فلم نصنع شيئا، ونحن نجعل لك جعلا على أن تسحره لنا سحرا ينكؤه.
فجعلوا له ثلاثة دنانير " ووقع في رواية أبي ضمرة عند الاسماعيلي " فأقام أربعين ليلة " وفي رواية وهيب عن هشام عند أحمد " ستة أشهر " ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه والاربعين يوما من استحكامه.
وقال السهيلي: لم أقف في شيء من الاحاديث المشهورة على قدر المدة التي مكث النبي صلى الله عليه وسلم فيها في السحر حتى ظفرت به في " جامع معمر " عن الزهري أنه لبث ستة أشهر، كذا قال، وقد وجدناه موصولا بإسناد الصحيح فهو المعتمد.
قوله (حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله) قال المازري: أنكر المبتدعة هذا الحديث وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، قالوا وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعه من الشرائع إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم، وأنه يوحي إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء، قال المازري: وهذا كله مردود، لان الدليل قد قام على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل.
وأما ما يتعلق ببعض الامور الدنيا التي لم يبعث لاجلها ولا كانت الرسالة من أجلها فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالامراض، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين، قال: وقد قال بعض الناس إن المراد بالحديث أنه كان صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطأهن، وهذا كثيرا ما يقع تخيله للانسان في المنام فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة.
قلت: وهذا قد ورد صريحا في رواية ابن عيينة في الباب الذي يلي هذا ولفظه " حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن " وفي رواية الحميدي " أنه يأتي أهله ولا يأتيهم " قال الداودي " يرى " بضم أوله أي يظن.
وقال ابن التين ضبطت " يرى " بفتح أوله.
قلت: وهو من الرأي لا من الرؤية، فيرجع إلى معني الظن.
وفي مرسل يحيى بن يعمر عند عبد الرزاق " سحر النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة حتى أنكر بصره " وعنده في مرسل سعيد بن المسيب " حتى كاد ينكر بصره " قال عياض: فظهر بهذا أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه لا على تمييزه ومعتقده.
قلت: ووقع في مرسل عبد الرحمن بن كعب عند ابن سعد " فقالت أخت لبيد بن الاعصم: إن يكن نبيا فسيخبر، إلا فسيذهله هذا السحر حتى يذهب عقله " قلت: فوقع الشق الاول كما في هذا الحديث الصحيح.
وقد قال بعض العلماء: لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك. وإنما يكون من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت، فلا يبقى على هذا للملحد حجة.
وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد بالتخييل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته من الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فتر عن ذلك كما هو شأن المعقود، ويكون قوله في الرواية الاخرى " حتى كاد ينكر بصره " أي صار كالذي أنكر بصره بحيث أنه إذا رأى الشيء يخيل أنه على غير صفته، فإذا تأمله عرف حقيقته.
ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه في خبر من الاخبار أنه قال قولا فكان بخلاف ما أخبر به.
وقال المهلب: صون النبي صلى الله عليه وسلم من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده، فقد مضى في الصحيح أن شيطانا أراد أن يفسد عليه صلاته فأمكنه الله منه، فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يدخل نقصا على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الامراض من ضعف عن الكلام، أو عجز عن بعض الفعل، أو حدوث تخيل لا يستمر، بل يزول ويبطل الله كيد الشياطين.
واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث " فأما أنا فقد شفاني الله " وفي الاستدلال بذلك نظر، لكن يؤيد المدعي أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في الدلائل " فكان يدور ولا يدري ما وجعه " وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد " مرض النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عن النساء والطعام والشراب، فهبط عليه ملكان " الحديث.
قوله: (حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة) شك من الراوي، وأظنه من البخاري لانه أخرجه في صفة إبليس من بدء الخلق فقال " حتى كان ذات يوم " ولم يشك، ثم ظهر لي أن الشك فيه من عيسى بن يونس، وأن إسحاق بن راهويه أخرجه في مسنده عنه على الشك، ومن طريقه أخرجه أبو نعيم، فيحمل الجزم الماضي على أن إبراهيم بن موسى شيخ البخاري حدثه به تارة بالجزم وتارة بالشك، ويؤيده ما سأذكره من الاختلاف عنه، وهذا من نوادر ما وقع في البخاري أن يخرج الحديث تاما بإسناد واحد بلفظين.
ووقع في رواية أبي أسامة الاتية قريب