الحديث:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ فَلَمَّا كَانَ بِسَرْغَ بَلَغَهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ فَأَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا فِرَاراً مِنْهُ
الشرح:
قوله: (عن عبد الله بن عامر) هو ابن ربيعة، وثبت كذلك في رواية القعنبي كما سيأتي في ترك الحيل وعبد الله بن عامر هذا معدود في الصحابة لانه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع منه ابن شهاب هذا الحديث عاليا عن عبد الرحمن بن عوف وعمر، لكنه اختصر القصة واقتصر على حديث عبد الرحمن بن عوف.
وفي رواية القعنبي عقب هذه الطريق " وعن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عمر إنما انصرف " من حديث عبد الرحمن، وهو لمسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك وقال: " إنما رجع بالناس من سرغ " عن حديث عبد الرحمن بن عوف وكذا هو في الموطأ، وقد رواه جويرية بن أسماء عن مالك خارج " الموطأ " مطولا أخرجه الدار قطني في " الغرائب " فزاد بعد قوله عن حديث عبد الرحمن بن عوف " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقدم عليه إذا سمع به، وأن يخرج عنه إذا وقع بأرض هو بها " وأخرجه أيضا من رواية بشر بن عمر عن مالك بمعناه، ورواية سالم هذه منقطعة لانه لم يدرك القصة ولا جده عمر ولا عبد الرحمن بن عوف، وقد رواه ابن أبي ذئب عن ابن شهاب عن سالم فقال: " عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عبد الرحمن أخبر عمر وهو في طريق الشام لما بلغه أن بها الطاعون " فذكر الحديث أخرجه الطبراني فإن كان محفوظا فيكون ابن شهاب سمع أصل الحديث من عبد الله بن عامر وبعضه من سالم عنه، واختصر مالك الواسطة بين سالم وعبد الرحمن والله أعلم، وليس مراد سالم بهذا الحصر نفي سبب رجوع عمر أنه كان عن رأيه الذي وافق عليه مشيخة قريش من رجوعه بالناس، وإنما مراده أنه لما سمع الخبر رجح عنده ما كان عزم عليه من الرجوع، وذلك أنه قال: " إني مصبح على ظهر " فبات على ذلك ولم يشرع في الرجوع حتى جاء عبد الرحمن بن عوف فحدث بالحديث المرفوع فوافق رأي عمر الذي رآه فحضر سالم سبب رجوعه في الحديث لانه السبب الاقوى، ولم يرد نفي السبب الاول وهو اجتهاد عمر، فكأنه يقول: لولا وجود النص لامكن إذا أصبح أن يتردد في ذلك أو يرجع عن رأيه، فلما سمع الخبر استمر على عزمه الاول، ولولا الخبر لما استمر.
فالحاصل أن عمر أراد بالرجوع ترك الالقاء إلى التهلكة، فهو كمن أراد الدخول إلى دار فرأى بها مثلا حريقا تعذر طفؤه فعدل عن دخولها لئلا يصيبه.
فعدل عمر لذلك، فلما بلغه الخبر جاء موافقا لرأيه فأعجبه، فلاجل ذلك قال من قال: إنما رجع لاجل الحديث، لا لما اقتضاه نظره فقط.
وقد أخرج الطحاوي بسند صحيح " عن أنس أن عمر أتى الشام فاستقبله أبو طلحة وأبو عبيدة فقالا: يا أمير المؤمنين إن معك وجوه الصحابة وخيارهم، وإنا تركنا من بعدنا مثل حريق النار، فارجع العام.
فرجع " وهذا في الظاهر يعارض حديث الباب، فإن فيه الجزم بأن أبا عبيدة أنكر الرجوع ويمكن الجمع بأن أبا عبيدة أشار أولا بالرجوع ثم غلب عليه مقام التوكل لما رأى أكثر المهاجرين والانصار جنحوا إليه فرجع عن رأي الرجوع، وناظر عمر في ذلك، فاستظهر عليه عمر بالحجة فتبعه، ثم جاء عبد الرحمن بن عوف بالنص فارتفع الاشكال.
وفي هذا الحديث جواز رجوع من أراد دخول بلدة فعلم أن بها الطاعون، وأن ذلك ليس من الطيرة، وإنما هي من منع الالقاء إلى التهلكة، أو سد الذريعة لئلا يعتقد من يدخل إلى الارض التي وقع بها أن لو دخلها وطعن العدوى المنهي عنها كما سأذكره، وقد زعم قوم أن النهي عن ذلك إنما هو للتنزيه، وأنه يجوز الاقدام عليه لمن قوي توكله وصح يقينه، وتمسكوا بما جاء عن عمر أنه ندم على رجوعه من سرغ كما أخرج ابن أبي شيبة بسند جيد من رواية عروة بن رويم عن القاسم بن محمد عن ابن عمر قال: " جئت عمر حين قدم فوجدته قائلا في خبائه، فانتظرته في ظل الخباء، فسمعته يقول حين تضور: اللهم اغفر لي رجوعي من سرغ " وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده أيضا.
وأجاب القرطبي في " المفهم " بأنه لا يصح عن عمر، قال: وكيف يندم على فعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ويرجع عنه ويستغفر منه؟ وأجيب بأن سنده قوي والاخبار القوية لا ترد بمثل هذا مع إمكان الجمع فيحتمل أن يكون كما حكاه البغوي في شرح السنة عن قوم أنهم حملوا النهي على التنزيه، وأن القدوم عليه جائز لمن غلب عليه التوكل، والانصراف عنه رخصة.
ويحتمل - وهو أقوى - أن يكون سبب ندمه أنه خرج لامر مهم من أمور المسلمين، فلما وصل إلى قرب البلد المقصود رجع، مع أنه كان يمكنه أن يقيم بالقرب من البلد المقصود إلى أن يرتفع الطاعون فيدخل إليها ويقضي حاجة المسلمين، ويؤيد ذلك أن الطاعون ارتفع عنها عن قرب، فلعله كان بلغه ذلك فندم على رجوعه إلى المدينة، لا على مطلق رجوعه، فرأى أنه لو انتظر لكان أولى لما في رجوعه على العسكر الذي كان صحبته من المشقة، والخبر لم يرد بالامر بالرجوع وإنما ورد بالنهي عن القدوم.
والله أعلم.
وأخرج الطحاوي بسند صحيح " عن زيد بن أسلم عن أبيه قال قال عمر: اللهم إن الناس قد نحلوني ثلاثا أنا أبرأ إليك منهن: زعموا أني فررت الطاعون وأنا أبرأ إليك من ذلك " وذكر الطلاء والمكس، وقد ورد عن غير عمر التصريح بالعمل في ذلك بمحض التوكل، فأخرج ابن خزيمة بسند صحيح " عن هشام بن عروة عن أبيه أن الزبير بن العوام خرج غازيا نحو مصر، فكتب إليه أمراء مصر أن الطاعون قد وقع، فقال: إنما خرجنا للطعن والطاعون، فدخلها فلقي طعنا في جبهته ثم سلم " وفي الحديث أيضا منع من وقع الطاعون ببلد هو فيها من الخروج منها، وقد اختلف الصحابة في ذلك كما تقدم، وكذا أخرج أحمد بسند صحيح إلى أبي منيب " أن عمرو بن العاص قال في الطاعون: إن هذا رجز مثل السيل، من تنكبه أخطأه.
ومثل النار، من أقام أحرقته، فقال شرحبيل بن حسنة: إن هذا رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وقبض الصالحين قبلكم " وأبو منيب بضم الميم وكسر النون بعدها تحتانية ساكنه ثم موحدة وهو دمشقي نزل البصرة يعرف بالاحدب، وثقه العجلي وابن حبان، وهو غير أبي منيب الجرشي فيما ترجح عندي، لان الاحدب أقدم من الجرشي، وقد أثبت البخاري سماع الاحدب من معاذ بن جبل، والجرشي يروي عن سعيد بن المسيب ونحوه.
وللحديث طريق أخرى أخرجها أحمد أيضا من رواية شرحبيل بن شفعة بضم المعجمة وسكون الفاء عن عمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة بمعناه.
وأخرجه ابن خزيمة والطحاوي وسنده صحيح.
وأخرجه أحمد وابن خزيمة أيضا من طريق شهر بن حوشب عبد الرحمن بن غنم عن عمرو بن شرحبيل بمعناه.
وأخرج أحمد من طريق أخرى أن المراجعة في ذلك أيضا وقعت من عمرو بن العاص ومعاذ بن جبل.
وفي طريق أخرى بينه وبين واثلة الهذلي.
وفي معظم الطرق أن عمرو بن العاص صدق شرحبيل وغيره على ذلك.
ونقل عياض وغيره جواز الخروج من الارض التي يقع بها الطاعون عن جماعة من الصحابة، منهم أبو موسى الاشعري والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين منهم الاسود بن هلال ومسروق، ومنهم من قال: النهي فيه للتنزيه فيكره ولا يحرم، وخالفهم جماعة فقالوا: يحرم الخروج منها لظاهر النهي الثابت في الاحاديث الماضية، وهذا هو الراجح عند الشافعية وغيرهم، ويؤيده ثبوت الوعيد على ذلك: فأخرج أحمد وابن خزيمة من حديث عائشة مرفوعا في أثناء حديث بسند حسن " قلت يا رسول الله فما الطاعون؟ قال غدة كغدة الابل، المقيم فيها كالشهيد والفار منها كالفار من الزحف".
وله شاهد من حديث جابر رفعه " الفار من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه كالصابر في الزحف " أخرجه أحمد أيضا وابن خزيمة وسنده صالح للمتابعات.
وقال الطحاوي استدل من أجاز الخروج بالنهي الوارد عن الدخول إلى الارض التي يقع بها، قالوا: وإنما نهى عن ذلك خشية أن يعدي من دخل عليه، قال: وهو مردود لانه لو كان النهي لهذا لجاز لاهل الموضع الذي وقع فيه الخروج، وقد ثبت النهي أيضا عن ذلك فعرف أن المعنى الذي لاجله منعوا من القدوم عليه غير معنى العدوى، والذي يظهر - والله أعلم - أن حكمة النهي عن القدوم عليه لئلا يصيب من قدم عليه بتقدير الله فيقول: لولا أني قدمت هذه الارض لما أصابني، ولعله لو أقام في الموضع الذي كان فيه لاصابه.
فأمر أن لا يقدم عليه حسما للمادة.
ونهى من وقع وهو بها أن يخرج من الارض التي نزل بها لئلا يسلم فيقول مثلا: لو أقمت في تلك الارض لاصابني ما أصاب أهلها، ولعله لو كان أقام بها ما أصابه من ذلك شيء ا هـ.
ويؤيده ما أخرجه الهيثم بن كليب والطحاوي والبيهقي بسند حسن عن أبي موسى أنه قال: " إن هذا الطاعون قد وقع، فمن أراد أن يتنزه عنه فليفعل، واحذروا اثنتين: أن يقول قائل خرج خارج فسلم، وجلس جالس فأصيب فلو كنت خرجت لسلمت كما سلم فلان، أو لو كنت جلست أصبت كما أصيب فلان " لكن أبو موسى حمل النهي على من قصد الفرار محضا.
ولا شك أن الصور ثلاث: من خرج لقصد الفرار محضا فهذا يتناوله النهي لا محالة، ومن خرج لحاجة متمحضة لا لقصد الفرار أصلا، ويتصور ذلك فيمن تهيأ للرحيل من بلد كان بها إلى بلد إقامته مثلا ولم يكن الطاعون وقع فاتفق وقوعه في أثناء تجهيزه فهذا لم يقصد الفرار أصلا فلا يدخل في النهي، والثالث من عرضت له حاجة فأراد الخروج إليها وانضم إلى ذلك أنه قصد الراحة من الاقامة بالبلد التي وقع بها الطاعون فهذا محل النزاع، ومن جملة هذه الصورة الاخيرة أن تكون الارض التي وقع بها وخمة والارض التي يريد التوجه إليها صحيحة فيتوجه بهذا القصد، فهذا جاء النقل فيه عن السلف مختلفا: فمن منع نظر إلى صورة الفرار في الجملة، ومن أجاز نظر إلى أنه مستثنى من عموم الخروج فرارا لانه لم يتمحض للفرار وإنما هو لقصد التداوي، وعلى ذلك يحمل ما وقع في أثر أبي موسى المذكور " أن عمر كتب إلى أبي عبيدة إن لي إليك حاجة فلا تضع كتابي من يدك حتى تقبل إلي.
فكتب إليه: إني قد عرفت حاجتك، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم.
فكتب إليه: أما بعد فإنك نزلت بالمسلمين أرضا غميقة، فارفعهم إلى أرض نزهة.
فدعا أبو عبيدة أبا موسى فقال.
أخرج فارتد للمسلمين منزلا حتى أنتقل لهم " فذكر القصة في اشتغال أبي موسى بأهله.
ووقوع الطاعون بأبي عبيدة لما وضع رجله في الركاب متوجها، وأنه نزل بالناس في مكان آخر فارتفع الطاعون، وقوله: " غميقة " بغين معجمة وقاف بوزن عظيمة أي قريبة من المياه والنزوز، وذلك مما يفسد غالبا به الهواء لفساد المياه، والنزهة الفسيحة البعيدة عن الوخم.
فهذا يدل على أن عمر رأى أن النهي عن الخروج إنما هو لمن قصد الفرار متمحضا، ولعله كانت له حاجة بأبي عبيدة في نفس الامر فلذلك استدعاه، وظن أبو عبيدة أنه إنما طلبه ليسلم من وقوع الطاعون به فاعتذر عن إجابته لذلك، وقد كان أمر عمر لابي عبيدة بذلك بعد سماعهما للحديث المذكور من عبد الرحمن بن عوف، فتأول عمر فيه ما تأول، واستمر أبو عبيدة على الاخذ بظاهره، وأيد الطحاوي صنيع عمر بقصة العرنيين، فإن خروجهم من المدينة كان للعلاج لا للفرار، وهو واضح من قصتهم لانهم شكوا وخم المدينة وأنها لم توافق أجسامهم، وكان خروجهم من ضرورة الواقع لان الابل التي أمروا أن يتداووا بألبانها وأبوالها واستنشاق روائحها ما كانت تتهيأ إقامتها بالبلد، وإنما كانت في مراعيها فلذلك خرجوا، وقد لحظ البخاري ذلك فترحم قبل ترجمة الطاعون من خرج من الارض التي لا تلائمه، وساق قصة العرنيين، ويدخل فيه ما أخرجه أبو داود من حديث فروة بن مسيك بمهملة وكاف مصغر، قال.
" قلت يا رسول الله إن عندنا أرضا يقال لها أبين هي أرض ريفنا وميرتنا وهي وبئة، فقال: دعها عنك، فإن من القرف التلف " قال ابن قتيبة القرف القرب من الوباء.
وقال الخطابي.
ليس في هذا إثبات العدوى، وإنما هو من باب التداوي، فإن استصلاح الاهوية من أنفع الاشياء في تصحيح البدن وبالعكس، واحتجوا أيضا بالقياس على الفرار من المجذوم وقد ورد الامر به كما تقدم، والجواب أن الخروج من البلد التي وقع بها الطاعون قد ثبت النهي عنه، والمجذوم قد ورد الامر بالفرار منه فكيف يصح القياس؟ وقد تقدم في " باب الجذام " من بيان الحكمة في ذلك ما يغني عن إعادته.
وقد ذكر العلماء في النهي عن الخروج حكما: منها أن الطاعون في الغالب يكون عاما في البلد الذي يقع به، فإذا وقع فالظاهر مداخلة سببه لمن بها فلا يفيده الفرار، لان المفسدة إذا تعينت - حتى لا يقع الانفكاك عنها - كان الفرار عبثا فلا يليق بالعاقل، ومنها أن الناس لو تواردوا على الخروج لصار من عجز عنه - بالمرض المذكور أو بغيره - ضائع المصلحة لفقد من يتعهده حيا وميتا، وأيضا فلو شرع الخروج فخرج الاقوياء لكان في ذلك كسر قلوب الضعفاء، وقد قالوا إن حكمة الوعيد في الفرار من الزحف لما فيه من كسر قلب من لم يفر وإدخال الرعب عليه بخذلانه، وقد جمع الغزالي بين الامرين فقال: الهواء لا يضر من حيث ملاقاته ظاهر البدن، بل من حيث دوام الاستنشاق فيصل إلى القلب والرئة فيؤثر في الباطن ولا يظهر على الظاهر إلا بعد التأثير في الباطن، فالخارج من البلد الذي يقع به لا يخلص غالبا مما استحكم به.
وينضاف إلى ذلك أنه لو رخص للاصحاء في الخروج لبقي المرضى لا يجدون من يتعاهدهم فتضيع مصالحهم.
ومنها ما ذكره بعض الاطباء أن المكان الذي يقع به الوباء تتكيف أمزجة أهله بهواء تلك البقعة وتألفها وتصير لهم كالاهوية الصحيحة لغيرهم، فلو انتقلوا إلى الاماكن الصحيحة لم يوافقهم، بل ربما إذا استنشقوا هواءها استصحب معه إلى القلب من الابخرة الرديئة التي حصل تكيف بدنه بها فأفسدته، فمنع من الخروج لهذه النكتة.
ومنها ما تقدم أن الخارج يقول لو أقمت لاصبت، والمقيم يقول لو خرجت لسلمت، فيقع في اللغو المنهي عنه والله أعلم.
وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة في قوله: " فلا تقدموا عليه ": فيه منع معارضة متضمن الحكمة بالقدر، وهو من مادة قوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) وفي قوله: " فلا تخرجوا فرارا منه " إشارة إلى الوقوف مع المقدور والرضا به، قال: وأيضا فالبلاء إذا نزل إنما يقصد به أهل البقعة لا البقعة نفسها، فمن أراد الله إنزال البلاء به فهو واقع به ولا محالة، فأينما توجه يدركه، فأرشده الشارع إلى عدم النصب من غير أن يدفع ذلك المحذور.
وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: الذي يترجح عندي في الجمع بينهما أن في الاقدام عليه تعريض النفس للبلاء، ولعلها لا تصبر عليه، وربما كان فيه ضرب من الدعوى لمقام الصبر أو التوكل فمنع ذلك حذرا من اغترار النفس ودعواها ما لا تثبت عليه عند الاختبار، وأما الفرار فقد يكون داخلا في التوغل في الاسباب بصورة من يحاول النجاة بما قدر عليه، فأمرنا الشارع بترك التكلف في الحالتين، ومن هذه المادة قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاصبروا " فأمر بترك التمني لما فيه من التعرض للبلاء، وخوف اغترار النفس، إذ لا يؤمن غدرها عند الوقوع، ثم أمرهم بالصبر عند الوقوع تسليما لامر الله تعالى.
وفي قصة عمر من الفوائد مشروعية المناظرة، والاستشارة في النوازل، وفي الاحكام، وأن الاختلاف لا يوجب حكما، وأن الاتفاق هو الذي يوجبه، وأن الرجوع عند الاختلاف إلى النص، وأن النص يسمى علما، وأن الامور كلها تجري بقدر الله وعلمه، وأن العالم قد يكون عنده ما لا يكون عند غيره ممن هو أعلم منه.
وفيه وجوب العمل بخبر الواحد، وهو من أقوى الادلة على ذلك، لان ذلك كان باتفاق أهل الحل والعقد من الصحابة فقبلوه من عبد الرحمن بن عوف ولم يطلبوا معه مقويا.
وفيه الترجيح بالاكثر عددا والاكثر تجربة لرجوع عمر لقول مشيخة قريش مع ما انضم إليهم ممن وافق رأيهم من المهاجرين والانصار، فإن مجموع ذلك أكثر من عدد من خالفه من كل من المهاجرين والانصار، ووازن ما عند الذين خالفوا ذلك من مزيد في العلم والدين ما عند المشيخة من السن والتجارب، فلما تعادلوا من هذه الحيثية رجح بالكثرة ووافق اجتهاده النص، فلذلك حمد الله تعالى على توفيقه لذلك.
وفيه تفقد الامام أحوال رعيته لما فيه من إزالة ظلم المظلوم وكشف كربة المكروب وردع أهل الفساد وإظهار الشرائع والشعائر وتنزيل الناس منازلهم.
الحديث:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ المَسِيحُ وَلا الطَّاعُونُ
الشرح:
حديث أبي هريرة " لا يدخل المدينة المسيح ولا الطاعون " كذا أورده مختصرا وقد أورده في الحج عن إسماعيل بن أويس عن مالك أتم من هذا بلفظ " على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال " وقدمت هناك ما يتعلق بالدجال، وأخرجه في الفتن عن القعنبي عن مالك كذلك، ومن حديث أنس رفعه " المدينة يأتيها الدجال فيجد الملائكة فلا يدخلها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله تعالى " وقد استشكل عدم دخول الطاعون المدينة مع كون الطاعون شهادة وكيف قرن بالدجال ومدحت المدينة بعدم دخولهما، والجواب أن كون الطاعون شهادة ليس المراد بوصفه بذلك ذاته وإنما المراد أن ذلك يترتب عليه وينشأ عنه لكونه سببه فإذا استحضر ما تقدم من أنه طعن الجن حسن مدح المدينة بعدم دخوله إياها، فإن فيه إشارة إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخول المدينة ومن اتفق دخوله إليها لا يتمكن من طعن أحد منهم، فإن قيل: طعن الجن لا يختص بكفارهم بل قد يقع من مؤمنيهم، قلنا: دخول كفار الانس المدينة ممنوع فإذا لم يسكن المدينة إلا من يظهر الاسلام جرت عليه أحكام المسلمين ولو لم يكن خالص الاسلام، فحصل الامن من وصول الجن إلى طعنهم بذلك، فلذلك لم يدخلها الطاعون أصلا.
وقد أجاب القرطبي في " المفهم " عن ذلك فقال: المعنى لا يدخلها من الطاعون مثل الذي وقع في غيرها كطاعون عمواس والجارف، وهذا الذي قاله يقتضي تسليم أنه دخلها في الجملة، وليس كذلك فقد جزم ابن قتيبة في " المعارف " وتبعه جمع جم من آخرهم الشيخ محيي الدين النووي في " الاذكار " بأن الطاعون لم يدخل المدينة أصلا ولا مكة أيضا، لكن نقل جماعة أنه دخل مكة في الطاعون العام الذي كان في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، بخلاف المدينة فلم يذكر أحد قط أنه وقع بها الطاعون أصلا، ولعل القرطبي بني على أن الطاعون أعم من الوباء، أو أنه هو وأنه الذي ينشأ عن فساد الهواء فيقع به الموت الكثير، وقد مضى في الجنائز من صحيح البخاري قول أبي الاسود " قدمت المدينة وهم يموتون بها موتا ذريعا " فهدا وقع بالمدينة وهو وباء بلا شك، ولكن الشأن في تسميته طاعونا، والحق أن المراد بالطاعون في هذا الحديث المنفي دخوله المدينة الذي ينشأ عن طعن الجن فيهيج بذلك الطعن الدم في البدن فيقتل فهذا لم يدخل المدينة قط فلم يتضح جواب القرطبي، وأجاب غيره بأن سبب الترجمة لم ينحصر في الطاعون، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " ولكن عافيتك أوسع لي " مكان منع دخول الطاعون المدينة من خصائص المدينة ولوازم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها بالصحة.
وقال آخر: هذا من المعجزات المحمدية، لان الاطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون عن بلد بل عن قرية، وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة.
قلت: وهو كلام صحيح، ولكن ليس هو جوابا عن الاشكال.
ومن الاجوبة أنه صلى الله عليه وسلم عوضهم عن الطاعون بالحمى لان الطاعون يأتي مرة بعد مرة والحمى تتكرر في كل حين فيتعادلان في الاجر ويتم المراد من عدم دخول الطاعون لبعض ما تقدم من الاسباب، ويظهر لي جواب آخر بعد استحضار الحديث الذي أخرجه أحمد من رواية أبي عسيب بمهملتين آخره موحدة وزن عظيم رفعه " أتاني جبريل بالحمى والطاعون، فأمسكت الحمى بالمدينة وأرسلت الطاعون إلى الشام " وهو أن الحكمة قي ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة كان في قلة من أصحابه عددا ومددا وكانت المدينة وبئة كما سبق من حديث عائشة ثم خير النبي صلى الله عليه وسلم في أمرين يحصل بكل منهما الاجر الجزيل فاختار الحمى حينئذ لقلة الموت بها غالبا، بخلاف الطاعون، ثم لما احتاج إلى جهاد الكفار وأذن له في القتال كانت قضية استمرار الحمى أن تضعف أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية لاجل الجهاد، فدعا بنقل الحمى من المدينة إلى الجحفة فعادت المدينة أصح بلاد الله بعد أن كانت بخلاف ذلك ثم كانوا من حينئذ من فاتته الشهادة بالطاعون ربما حصلت له بالقتل في سبيل الله، ومن فاته ذلك حصلت له الحمى التي هي حظ المؤمن من النار، ثم استمر ذلك بالمدينة تمييزا لها عن غيرها لتحقق إجابة دعوته وظهور هذه المعجزة العظيمة بتصديق خبره هذه المدة المتطاولة.
والله أعلم.
(تنبيه) : سيأتي في ذكر الدجال في أواخر كتاب الفتن حديث أنس وفيه " فيجد الملائكة يحرسونها فلا يقربها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله تعالى " وإنه اختلف في هذا الاستثناء فقيل: هو للتبرك فيشملهما، وقيل: هو للتعليق وأنه يختص بالطاعون وأن مقتضاه جواز دخول الطاعون المدينة، ووقع في بعض طرق حديث أبي هريرة " المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة على كل نقب منهما ملك لا يدخلهما الدجال ولا الطاعون " أخرجه عمر بن شبة في " كتاب مكة " عن شريح عن فليح عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا ورجاله رجال الصحيح، وعلى هذا فالذي نقل أنه وجد في سنة تسع وأربعين وسبعمائة منه ليس كما ظن من نقل ذلك، أو يجاب إن تحقق ذلك بجواب القرطبي المتقدم.
الحديث:
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ قَالَتْ قَالَ لِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَحْيَى بِمَ مَاتَ قُلْتُ مِنْ الطَّاعُونِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ
الشرح:
قوله: (عبد الواحد) هو ابن زياد، وعاصم هو ابن سليمان الاحول، والاسناد كله بصريون.
قوله: (قالت قال لي أنس) ليس لحفصة بنت سيرين عن أنس في البخاري إلا هذا الحديث.
قوله: (يحيى بم مات) ؟ أي بأي شهر مات؟ ووقع في رواية " بما مات "؟ بإشباع الميم وهو للاصيلي وهي ما الاستفهامية، لكن اشتهر حذف الالف منها إذا دخل عليها حرف جر، ويحيى المذكور هو ابن سيرين أخو حفصة، ووقع في رواية مسلم يحيى بن أبي عمرة وهو ابن سيرين لانها كنية سيرين، وكانت وفاة يحيى في حدود التسعين من الهجرة على ما يورد من هذا الحديث، لكن أخرج البخاري في " التاريخ الاوسط " من طريق حماد عن يحيى بن عتيق " سمعت يحيى بن سيرين ومحمد بن سيرين يتذاكران الساعة التي في الجمعة " نقله بعد موت أنس بن مالك، أراد أن يحيى بن سيرين مات بعد أنس بن مالك فيكون حديث حفصة خطأ، انتهى.
وتخريجه لحديث حفصة في الصحيح يقتضي أنه ظهر له أن حديث يحيى بن عتيق خطأ، وقد قال في " التاريخ الصغير " حديث يحيى بن عتيق عن حفصة خطأ، فإذا جوز عليه الخطأ في حديثه عن حفصة جاز تجويزه عليه في قوله: " يحيى بن سيرين " فلعله كان أنس بن سيرين، والله أعلم.
قوله: (الطاعون شهادة لكل مسلم) أي يقع به، هكذا جاء مطلقا في حديث أنس، وسيأتي مقيدا بثلاثة قيود في حديث عائشة الذي في الباب بعده، وكأن هذا هو السر في إيراده عقبه.
الحديث:
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمَبْطُونُ شَهِيدٌ وَالْمَطْعُونُ شَهِيدٌ
الشرح:
حديث أبي هريرة رفعه " المبطون شهيد، والمطعون شهيد " هكذا أورده مختصرا مقتصرا على هاتين الخصلتين، وقد أورده في الجهاد من رواية عبد الله بن يوسف عن مالك مطولا بلفظ " الشهداء خمسة: المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والمقتول في سبيل الله " وأشرت هناك إلى الاخبار الواردة في الزيادة على الخمسة، والمراد بالمطعون من طعنه الجن كما تقدم تقريره في أول الباب.
باب أَجْرِ الصَّابِرِ فِي الطَّاعُونِ
الشرح:
قوله: (باب أجر الصابر على الطاعون) أي سواء وقع به أو وقع في بلد هو مقيم بها.
الحديث:
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا حَبَّانُ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا أَخْبَرَتْنَا أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ عَذَاباً يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِراً يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ تَابَعَهُ النَّضْرُ عَنْ دَاوُدَ
الشرح:
قوله: (حدثنا إسحاق) هو ابن راهويه، وحبان بفتح المهملة وتشديد الموحدة هو ابن هلال ويحيى بن يعمر بفتح التحتانية والميم بينهما عين مهملة ساكتة وآخره راء.
قوله: (أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون) في رواية أحمد من هذا الوجه عن عائشة " قالت سألت".
قوله: (أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء) في رواية الكشميهني " على من شاء " أي من كافر أو عاص كما تقدم في قصة آل فرعون وفي قصة أصحاب موسى مع بلعام.
قوله: (فجعله الله رحمة للمؤمنين) أي من هذه الامة، وفي حديث أبي عسيب عند أحمد " فالطاعون شهادة للمؤمنين ورحمة لهم، ورجس على الكافر " وهو صريح في أن كون الطاعون رحمة إنما هو خاص بالمسلمين، وإذا وقع بالكفار فإنما هو عذاب عليهم يعجل لهم في الدنيا قبل الاخرة، وأما العاصي من هذه الامة فهل يكون الطاعون له شهادة أو يختص بالمؤمن الكامل؟ فيه نظر.
والمراد بالعاصي من يكون مرتكب الكبيرة ويهجم عليه ذلك وهو مصر، فإنه يحتمل أن يقال لا يكرم بدرجة الشهادة لشؤم ما كان متلبسا به لقوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات) ؟ وأيضا فقد وقع في حديث ابن عمر ما يدل على أن الطاعون ينشأ عن ظهور الفاحشة، أخرجه ابن ماجه والبيهقي بلفظ " لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والاوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم " الحديث، وفي إسناده خالد بن يزيد بن أبي مالك وكان من فقهاء الشام، لكنه ضعيف عند أحمد وابن معين وغيرهما، ووثقه أحمد بن صالح المصري وأبو زرعة الدمشقي وقال ابن حبان: كان يخطئ كثيرا، وله شاهد عن ابن عباس في " الموطأ " بلفظ " ولا فشا الزنا في قوم إلا كثر فيهم الموت " الحديث، وفيه انقطاع.
وأخرجه الحاكم من وجه آخر موصولا بلفظ " إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله " وللطبراني موصولا من وجه آخر عن ابن عباس نحو سياق مالك وفي سنده مقال، وله من حديث عمرو بن العاص بلفظ " ما من قوم يظهر فيهم الزنا إلا أخذوا بالفناء " الحديث وسنده ضعيف، وفي حديث بريدة عند الحاكم بسند جيد بلفظ " ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الموت " ولاحمد من حديث عائشة مرفوعا " لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا أوشك أن يعمهم الله بعقاب " وسنده حسن.
ففي هذه الاحاديث أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية، فكيف يكون شهادة؟ ويحتمل أن يقال: بل تحصل له درجة الشهادة لعموم الاخبار الواردة، ولا سيما في الحديث الذي قبله عن أنس " الطاعون شهادة لكل مسلم " ولا يلزم من حصول درجة الشهادة لمن اجترع السيئات مساواة المؤمن الكامل في المنزلة، لان درجات الشهداء متفاوتة كنظيره من العصاة إذا قتل مجاهدا في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا مقبلا غير مدبر، ومن رحمة الله بهذه الامة المحمدية أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا، ولا ينافي ذلك أن يحصل لمن وقع به الطاعون أجر الشهادة، ولا سيما وأكثرهم لم يباشر تلك الفاحشة، وإنما عمهم - والله أعلم - لتقاعدهم عن إنكار المنكر.
وقد أخرج أحمد وصححه ابن حبان من حديث عتبة بن عبيد رفعه " القتل ثلاثة: رجل جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل، فذاك الشهيد المفتخر في خيمة الله تحت عرشه لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة.
ورجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا، جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل فانمحت خطاياه، إن السيف محاء للخطايا.
ورجل منافق جاهد بنفسه وماله حتى يقل فهو في النار، إن السيف لا يمحو النفاق " وأما الحديث الاخر الصحيح " إن الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدين " فإنه يستفاد منه أن الشهادة لا تكفر التبعات، وحصول التبعات لا يمنع حصول درجة الشهادة، وليس للشهادة معنى إلا أن الله يثيب من حصلت له ثوابا مخصوصا ويكرمه كرامة زائدة، وقد بين الحديث أن الله يتجاوز عنه ما عدا التبعات، فلو فرض أن للشهيد أعمالا صالحة وقد كفرت الشهادة أعماله السيئة غير التبعات فإن أعماله الصالحة تنفعه في موازنة ما عليه من التبعات وتبقى له درجة الشهادة خالصة، فإن لم يكن له أعمال صالحة فهو في المشيئة، والله أعلم.
قوله: (فليس من عبد) أي مسلم (يقع الطاعون) أي في مكان هو فيه (فيمكث في بلده) في رواية أحمد " في بيته"، ويأتي في القدر بلفظ " يكون فيه ويمكث فيه ولا يخرج من البلد " أي التي وقع فيها الطاعون.
قوله: (صابرا) أي غير منزعج ولا قلق، بل مسلما لامر الله راضيا بقضائه، وهذا قيد في حصول أجر الشهادة لمن يموت بالطاعون، وهو أن يمكث بالمكان الذي يقع به فلا يخرج فرارا منه كما تقدم النهي عنه في الباب قبله صريحا.
وقوله: " يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له " قيد آخر، وهي جملة حالية تتعلق بالاقامة، فلو مكث وهو قلق أو متندم على عدم الخروج ظانا أنه لو خرج لما وقع به أصلا ورأسا وأنه بإقامته يقع به فهذا لا يحصل له أجر الشهيد ولو مات بالطاعون، هذا الذي يقتضيه مفهوم هذا الحديث كما اقتضى منطوقه أن من اتصف بالصفات المذكورة يحصل له أجر الشهيد وإن لم يمت بالطاعون ومدخل تحته ثلاث صور: أن من اتصف بذلك فوقع به الطاعون فمات به، أو وقع به ولم يمت به، أو لم يقع به أصلا ومات بغيره عاجلا أو آجلا.
قوله: (مثل أجر الشهيد) لعل السر في التعبير بالمثلية مع ثبوت التصريح بأن من مات بالطاعون كان شهيدا أن من لم يمت من هؤلاء بالطاعون كان له مثل أجر الشهيد وإن لم تحصل له درجة الشهادة بعينها وذلك أن من اتصف بكونه شهيدا أعلى درجة ممن وعد بأنه يعطي مثل أجر الشهيد، ويكون كمن خرج على نية الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا فمات بسبب غير القتل، وأما ما اقتضاه مفهوم حديث الباب أن من اتصف بالصفات المذكورة ووقع به الطاعون ثم لم يمت منه أنه يحصل له ثواب الشهيد فشهد له حديث ابن مسعود الذي أخرجه أحمد من طريق إبراهيم بن عبيد بن رفاعة أن أبا محمد أخبره وكان من أصحاب ابن مسعود أنه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال.
" إن أكثر شهداء أمتي لاصحاب الفرش، ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته " والضمير في قوله أنه لابن مسعود فإن أحمد أخرجه في مسند ابن مسعود ورجال سنده موثقون، واستنبط من الحديث أن من اتصف بالصفات المذكورة ثم وقع به الطاعون فمات به أن يكون له أجر شهيدين، ولا مانع من تعدد الثواب بتعدد الاسباب كمن يموت غريبا بالطاعون، أو نفساء مع الصبر والاحتساب، والتحقيق فيما اقتضاه حديث الباب أنه يكون شهيدا بوقوع الطاعون به ويضاف له مثل أجر الشهيد لصبره وثباته، فإن درجة الشهادة شيء وأجر الشهادة شيء، وقد أشار إلى ذلك الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة وقال: هذا هو السر في قوله " والمطعون شهيد " وفي قوله في هذا: " فله مثل أجر شهيد " ويمكن أن يقال: بل درجات الشهداء متفاوتة، فأرفعها من اتصف بالصفات المذكورة ومات بالطاعون، ودونه في المرتبة من اتصف بها وطعن ولم يمت به، ودونه من اتصف ولم يطعن ولم يمت به.
ويستفاد من الحديث أيضا أن من لم يتصف بالصفات المذكورة لا يكون شهيدا ولو وقع الطاعون ومات به فضلا عن أن يموت بغيره، وذلك ينشأ عن شؤم الاعتراض الذي ينشأ عنه التضجر والتسخط لقدر الله وكراهة لقاء الله، وما أشبه ذلك من الامور التي تفوت معها الخصال المشروطة، والله أعلم.
وقد جاء في بعض الاحاديث استواء شهيد الطاعون وشهيد المعركة، فأخرج أحمد بسند حسن عن عتبة بن عبد السلمي رفعه " يأتي الشهداء والمتوفون بالطاعون، فيقول أصحاب الطاعون: نحن شهداء، فيقال: انظروا فإن كان جراحهم كجراح الشهداء تسيل دما وريحها كريح المسك فهم شهداء، فيجدونهم كذلك".
وله شاهد من حديث العرباض بن سارية أخرجه أحمد أيضا والنسائي بسند حسن أيضا بلفظ " يختصم الشهداء والمتوفون على فرشهم إلى ربنا عز وجل في الذين ماتوا بالطاعون، فيقول الشهداء: إخواننا قتلوا كما قتلنا، ويقول الذين ماتوا على فرشهم إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى جراحهم، فإن أشبهت جراح المقتولين فإنهم منهم، فإذا جراحهم أشبهت جراحهم " زاد الكلاباذي في " معاني الاخبار " من هذا الوجه في آخره " فيلحقون بهم".
قوله: (تابعه النضر عن داود) النضر هو ابن شميل، وداود هو ابن أبي الفرات، وقد أخرج طريق النضر في " كتاب القدر " عن إسحاق بن إبراهيم عنه، وتقدم موصولا أيضا في ذكر بني إسرائيل عن موسى بن إسماعيل، وأخرجه أحمد عن عفان وعبد الصمد بن عبد الوارث وأبي عبد الرحمن المقري والنسائي من طريق يونس بن محمد المؤدب كلهم عن داود بن أبي الفرات، وإنما ذكرت ذلك لئلا يتوهم أن البخاري أراد بقوله " تابعه النضر " إزالة توهم من يتوهم تفرد حبان بن هلال به فيظن أنه لم يروه غيرهما، ولم يرد البخاري ذلك وإنما أراد إزالة توهم التفرد به فقط، ولم يرد الحصر فيهما، والله أعلم.
باب الرُّقَى بِالْقُرْآنِ وَالْمُعَوِّذَاتِ
الشرح:
قوله: (باب الرقى) بضم الراء وبالقاف مقصور: جمع رقية بسكون القاف، يقال رقي بالفتح في الماضي يرقى بالكسر في المستقبل، ورقيت فلانا بكسر القاف أرقيه، واسترقى طلب الرقية، والجمع بغير همز، وهو بمعنى التعويذ بالذال المعجمة.
قوله: (بالقرآن والمعوذات) هو من عطف الخاص على العام، لان المراد بالمعوذات سورة الفلق والناس والاخلاص كما تقدم في أواخر التفسير، فيكون من باب التغليب.
أو المراد الفلق والناس وكل ما ورد من التعويذ في القرآن كقوله تعالى: (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين) ، (فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) وغير ذلك، والاول أولى، فقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من رواية عبد الرحمن بن حرملة عن ابن مسعود " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره عشر خصال " فذكر فيها الرقى إلا بالمعوذات، وعبد الرحمن بن حرملة قال البخاري لا يصح حديثه.
وقال الطبري لا يحتج بهذا الخبر لجهالة راويه، وعلى تقدير صحته فهو منسوخ بالاذن في الرقبة بفاتحة الكتاب، وأشار المهلب إلى الجواب عن ذلك بأن في الفاتحة معنى الاستعاذة وهو الاستعانة فعلى هذا يختص الجواز بما يشتمل على هذا المعنى، وقد أخرج الترمذي وحسنه والنسائي من حديث أبي سعيد " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الانسان حتى نزلت المعودات فأحذ بها وترك ما سواها".
وهذا لا يدل على المنع من التعوذ بغير هاتين السورتين، بل يدل على الاولوية، ولا سيما مع ثبوت التعوذ بغيرهما، وإنما اجتزأ بهما لما اشتملتا عليه من جوامع الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا، وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى.
واختلفوا في كونها شرطا، والراجح أنه لا بد من اعتبار الشروط المذكورة، ففي صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك قال: " كنا نرقى في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك " وله من حديث جابر " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى، فجاء آل عمرو بن حزم فقالوا: يا رسول الله إنه كانت عندنا رقية نرقى بها من العقرب، قال: فعرضوا عليه فقال: ما أرى بأسا، من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه " وقد تمسك قوم بهذا العموم فأجازوا كل رقية جربت منفعتها ولو لم يعقل معناها، لكن دل حديث عوف أنه مهما كان من الرقى يؤدي إلى الشرك يمنع، وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك فيمتنع احتياطا، والشرط الاخر لا بد منه.
وقال قوم لا تجوز الرقية إلا من العين واللدغة كما تقدم في " باب من اكتوى " من حديث عمران بن حصين " لا رقية إلا من عين أو حمة"، وأجيب بأن معنى الحصر فيه أنهما أصلا كل ما يحتاج إلى الرقية، فيلتحق بالعين جواز رقية من به خبل أو مس ونحو ذلك لاشتراكها في كونها تنشأ عن أحوال شيطانية من إنسي أو جني، ويلتحق بالسم كل ما عرض للبدن من قرح ونحوه من المواد السمية.
وقد وقع عند أبي داود في حديث أنس مثل حديث عمران وزاد " أو دم " وفي مسلم من طريق يوسف بن عبد الله بن الحارث عن أنس قال: " رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقى من العين والحمة والنملة " وفي حديث آخر " والاذن " ولابي داود من حديث الشفاء بنت عيد الله " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ألا تعلمين هذه - يعني حفصة - رقية النملة " والنملة قروح تخرج في الجنب وغيره من الجسد، وقيل المراد بالحصر معنى الافضل، أي لا رقية أنفع كما قيل: لا سيف إلا ذو الفقار.
وقال قوم: المنهي عنه من الرقى ما يكون قبل وقوع البلاء، والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه، ذكره ابن عبد البر والبيهقي وغيرهما، وفيه نظر، وكأنه مأخوذ من الخبر الذي قرنت فيه التمائم بالرقى، فأخرج أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم من طريق ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود عنها عن ابن مسعود رفعه " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " وفي الحديث قصة، والتمائم جمع تميمة وهي خرز أو قلادة تعلق في الرأس، كانوا في الجاهلية يعتقدون أن دلك يدفع الافات، والتولة بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففا شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر، وإنما كان ذلك من الشرك لانهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله، ولا يدخل في ذلك ما كان بأسماء الله وكلامه، فقد ثبت في الاحاديث استعمال ذلك قبل وقوعه كما سيأتي قريبا في " باب المرأة ترقى الرجل " من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم " كان إذا أوى إلى فراشه ينفث بالمعوذات ويمسح بهما وجهه " الحديث، ومضى في أحاديث الانبياء حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم " كان يعوذ الحسن والحسين بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة " الحديث، وصحح الترمذي من حديث خولة بنت حكيم مرفوعا " من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يتحول " وعند أبي داود والنسائي بسند صحيح عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن رجل من أسلم " جاء رجل فقال: لدغت الليلة فلم أنم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضرك " والاحاديث في هذا المعنى موجودة، لكن يحتمل أن يقال: إن الرقى أخص من التعوذ، وإلا فالخلاف في الرقى مشهور، ولا خلافه في مشروعية الفزع إلى الله تعالى والالتجاء إليه في كل ما وقع وما يتوقع.
وقال ابن التين: الرقى بالمعوذات وغيرها من أسماء الله هو الطب الروحاني، إذا كان على لسان الابرار من الخلق حصل الشفاء بإذن الله تعالى، فلما عز هذا النوع فزع الناس إلى الطب الجسماني وتلك الرقى المنهي عنها التي يستعملها المعزم وغيره ممن يدعي تسخير الجن له فيأتي بأمور مشتبهة مركبة من حق وباطل يجمع إلى ذكر الله وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة بهم والتعوذ بمردتهم، ويقال: إن الحية لعداوتها للانسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم، فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من مكانها، وكذا اللديغ إذا رقى بتلك الاسماء سالت سمومها من بدن الانسان، فلذلك كره من الرقى ما لم يكن بذكر الله وأسمائه خاصة وباللسان العربي الذي يعرف معناه ليكون بريئا من الشرك، وعلى كراهة الرقى بغير كتاب الله علماء الامة.
وقال القرطبي: الرقى ثلاثة أقسام، أحدها ما كان يرقى به في الجاهلية مما لا يعقل معناه فيجب اجتنابه لئلا يكون فيه شرك أو يؤدي إلى الشرك.
الثاني: ما كان بكلام الله أو بأسمائه فيجوز، فإن كان مأثورا فيستحب.
الثالث: ما كان بأسماء غير الله من ملك أو صالح أو معظم من المخلوقات كالعرش، قال: فهذا ليس من الواجب اجتنابه ولا من المشروع الذي يتضمن الالتجاء إلى الله والتبرك بأسمائه فيكون تركه أولى، إلا أن يتضمن تعظيم المرقى به فينبغي أن يجتنب كالحلف بغير الله تعالى.
قلت: ويأتي بسط ذلك في كتاب الايمان إن شاء الله تعالى.
وقال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية فقال: لا بأس أن يرقى بكتاب الله وما يعرف من ذكر الله، قلت: أيرقى أهل الكتاب المسلمين؟ قال: نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الله ا هـ.
وفي " الموطأ " أن أبا بكر قال لليهودية التي كانت ترقى عائشة: ارقيها بكتاب الله.
وروى ابن وهب عن مالك كراهة الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط والذي يكتب خاتم سليمان وقال: لم يكن ذلك من أمر الناس القديم.
وقال المازري: اختلف في استرقاء أهل الكتاب فأجازها قوم وكرهها مالك لئلا يكون مما بدلوه.
وأجاب من أجاز بأن مثل هذا يبعد أن يقولوه، وهو كالطب سواء كان غير الحاذق لا يحسن أن يقول والحاذق يأنف أن يبدل حرصا على استمرار وصفه بالحذق لترويح صناعته.
والحق أنه يختلف باختلاف الاشخاص والاحوال.
وسئل ابن عبد السلام عن الحروف المقطعة فمنع منها ما لا يعرف لئلا يكون فيها كفر.
وسيأتي الكلام على من منع الرقى أصلا في " باب من لم يرق " بعد خمسة أبواب إن شاء الله تعالى.
الحديث:
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنْفِثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا فَسَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ كَيْفَ يَنْفِثُ قَالَ كَانَ يَنْفِثُ عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ
الشرح:
قوله: (هشام) هو ابن يوسف الصنعاني.
قوله: (كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات) دلالته على المعطوف في الترجمة ظاهرة، وفي دلالته على المعطوف عليه نظر، لانه لا يلزم من مشروعية الرقى بالمعوذات أن يشرع بغيرها من القرآن لاحتمال أن يكون في المعوذات سر ليس في غيرها.
وقد ذكرنا من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم ترك ما عدا المعوذات، لكن ثبتت الرقية بفاتحة الكتاب فدل على أن لا اختصاص للمعوذات، ولعل هذا هو السر في تعقيب المصنف هذه الترجمة بباب الرقى بفاتحة الكتاب، وفي الفاتحة من معنى الاستعاذة بالله الاستعانة به، فمهما كان فيه استعاذة أو استعانة بالله وحده أو ما يعطي معنى ذلك فالاسترقاء به مشروع.
ويجاب عن حديث أبي سعيد بأن المراد أنه ترك ما كان يتعوذ به من الكلام غير القرآن، ويحتمل أن يكون المراد بقوله في الترجمة " الرقى بالقرآن " بعضه فإنه اسم جنس يصدق على بعضه، والمراد ما كان فيه التجاء إلى الله سبحانه، ومن ذلك المعوذات، وقد ثبت الاستعاذة بكلمات الله في عدة أحاديث كما مضى.
قال ابن بطال: في المعوذات جوامع من الدعاء.
نعم أكثر المكروهات من السحر والحسد وشر الشيطان ووسوسته وغير ذلك، فلهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتفي بها.
قلت: وسيأتي في " باب السحر